في أحد برامج ( المصارعة الحوارية ) استشهد البطل العلماني بآية قرآنية وذكر أنها من سورة ( الرمز ) ، فابتسم خصمه الإسلامي ابتسامة ماكرة وقال : ليس في القرآن كله سورة بهذا الاسم !! فاحتدّ العلماني واحتجّ بأن السورة موجودة بين يديه ورفع الورقة أمام الكاميرا ، فعاجله الإسلامي بالقول : لعلك تقصد سورة ( الزمر ) ؟ فبهت العلماني وأرتِجَ عليه وأدرك أنه أخطأ في اسم السورة واعتذر . ثم استأنفا جولاتهما التصارعية مرة أخرى .
كثيراً ما يستشهد العلمانيون بآيات قرآنية يكتبونها بصورة خاطئة أو يجتزئونها من سياقها فتدل على غير مقصودها كمن يتلو جزء الآية ( لا تقربوا الصلاة ... ) ولا يتمّها بـ ( وأنتم سكارى ) ، ونلاحظ في أغلب الأحيان أن العلماني يفعل ذلك عن جهل بأبسط قواعد البحث العلمي ، فهو لا يكلف نفسه عناء فتح المصحف ، فما بالك بدراسة القرآن الكريم والفقه الإسلامي الصحيح والبعيد عن التعصب الأعمى ؟ فأية مصداقية تكون لدى مثل هذا ( المفكر ) ؟ .
ولا يقل عنه جهلاً ذلك ( الإسلامي ) الذي يتصدى له دفاعاً عن الإسلام وهو غير كفؤ لذلك فيضرّ الدين ولا ينفعه وربما نفـّر الناس الحياديين وأعطاهم فكراً خاطئاً وحين يكون الخطأ أحاديَّ الجانب فإن من السهل تصحيحه ، أما إن كان مركـّباً أي من الجانبين ، فإن المراقب الطامع في معرفة الحقيقة من خلال جدل الطرفين لن يستطيع أن يخرج بنتيجة ، فلا يعرف أين الخطأ وأين الصواب ، وهذا هو الحادث في أغلب الحوارات التي تدور في وسائل الإعلام المختلفة بين الإسلاميين والعلمانيين .
بعض الإسلاميين يخلطون بين ما هو أصل في الدين وما هو تراث للسلف الصالح ، فيظنون التراث أصلاً من أصول الدين ، ويخلطون بين مفهوم الحداثة والتجديد ومفهوم البدع ، بحجة أن ( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) ، مع أن حديثاً شريفاً آخر يقول ( من سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء.... ) ، وبالنظر الى الحديث الثاني فإن الإسلام قد ترك الباب مفتوحاً للاجتهاد ولسنّ قوانين وسنن حسنة فيها فائدة للمسلمين وللناس جميعاً .
فما هو المعيار في ذلك ؟ وكيف نفرق بين ما هو بدعة وضلالة وبين ما هو سنة حسنة وهما ( البدعة ، والسنة الحسنة ) تندرجان تحت باب الحداثة والتجديد ؟ إن الأمر أبسط مما يظن الظانون ومما يعقـِّد المعقـِّدون ، لأن رسالة الإسلام إنما جاءت لمصلحة الإنسان ، فالله تعالى ليست له مصالح ، لأن أحداً لا يستطيع أن ينفع الله تعالى بشيء ولا أن يضره بشيء ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، وإذاً فمصلحة الإنسان هي المعيار ، وهي مطلقة لا يقيّدها سوى ميزان الحرام ، كيف ؟
خلق الله تعالى الإنسان وأعطاه حرية التصرف في الأرض كيف يشاء ، يأكل ما يشاء ويشرب ما يشاء ويلبس ما يشاء ، وبالتالي يختار نظامه الاجتماعي كيف يشاء ، ويبحث عن مصلحته الخاصة والعامة كيف يشاء ، ولذلك وجدت القاعدة الشرعية التي تقول ( حيث المصلحة فثمة شرع الله ) ، ولكن نظراً لقصور العقل الإنساني أمام طلاقة الحكمة الإلهية فقد اقتضت رحمة الله أن تتدخل ( بميزان حكيم ) اسمه ( لا تفعل ) ، وذلك لصيانة حياة الإنسان وجعلها أكثر رفاهية ، ولو ذهبت تقارن بين ما هو حرام وما هو مباح لوجدت أن المحرمات معدودة بينما المباحات مطلقة ، بمعنى أننا نستطيع أن نعدد المحرمات بل وأن نحصرها في كذا وكذا فقط ، مثل القتل ، السرقة ، الكذب ، الزنا ، الربا ، أكل لحم الخنزير ، الميسر ، شرب الخمر .. وهكذا ، بينما نجد باقي الأمور الحياتية الأخرى مباحة ويستطيع العقل الإنساني أن يختار منها ما يصلح لحياة الإنسان وسعادته ورفاهيته . ونلاحظ هنا أن المحرمات الخاصة بالجرائم السلوكية مثل القتل والسرقة والزنا هي في مصلحة كل فرد من أفراد المجتمع الإنساني فبالنسبة إليك فقد كفـّت يدك عن القتل والسرقة ، ولكنها في نفس الوقت كفت ملايين الأيدي عن قتلك وعن سرقة مالك ، فأنت إذاً الرابح من هذه الصفقة ، وكذلك كل فرد في المجتمع الإنساني كله .
لقد كرّمت رسالة الإسلام العقل الإنساني فلم تحرّم سوى أشياء معدودة لم يكن العقل وحده ليصل الى معرفة ضررها إلا بعد مئات أو آلاف السنين ، بينما تركت له الدنيا مباحة يفكر فيها كيف يشاء وينظم شئونها كيف يشاء .
ومن هنا نكتشف أن الإسلام لم يحدد للناس شكل نظام الحكم الذي يتبنونه ( ملكي ، جمهوري ، أمبراطوري ، خلافة ) ، ولم يفرض اسماً يطلق على الحاكم ( خليفة ، سلطان ، أمير مؤمنين ، رئيس ، مستشار ، رئيس وزراء ) ، ولم يأمر الحاكم بالبقاء في الحكم مدة معينة ( أربع سنوات ، ستاً ، مدتين ، ثلاثاً ، طيلة الحياة ) ، ولم يمنع إقامة المجالس النيابية ومجالس الشورى ، ولم يمنع أن يأتي الحاكم من خلال صناديق الانتخاب ، ولم يمنع إقامة الأحزاب التي تقدم برامج إصلاحية مختلفة ومتنوعة . كل هذه الأمور متروك لتقدير العقل الإنساني بحسب المصلحة على شرط إقامة العدل بين الناس وإصلاح أمورهم ، مع الأخذ في عين الاعتبار نبذ المحرمات ( المعدودة ) التي حددها ميزان التحريم سابق الذكر .
أما الفكرة التي تناقلتها أجيال المسلمين من كون شكل الحكم هو ( الخلافة ) فقط ، ومن كون المدة التي يظل فيها الحاكم حاكماً هي مدى حياته ، فهي فكرة خاطئة ليس لها سند من الدين ، لأن الآية الكريمة ( .. وأمرهم شورى بينهم .. ) 38 الشورى . تقضي بأنّ ما يتوافق عليه المسلمون هو الذي يكون .
وهذا يعني أن أي نظام حكم في الغرب مهما كان شكله ، لا يختلف عن شكل نظام الحكم الإسلامي إلا في قضية أركان الإيمان بالله وفي تجاوزه في نواحي الاقتصاد كالنظام الربوي وعدم وجود الزكاة ، وفي إباحته للخمر وللزنا ولإطلاقه لأنواع المطعومات المحرمة .
وإذاً فإن الخلاف بين العلمانيين والإسلاميين لا شأن له بنظام الحكم ولا بشكل الدولة ، بقدر ما أن العلمانيين يريدون تقليد الغرب في كل صغيرة وكبيرة على حساب ثقافتهم وانتمائهم لأمتهم الإسلامية ، وعلى حساب أركان الإيمان بالله في مخالفتهم لبعض الأنظمة الإسلامية التي تمس العقيدة نفسها ، وأن الإسلاميين يريدون تقليد السلف الصالح في كل صغيرة وكبيرة على حساب التجديد وضرورة أخذ تغير العصر في عين الاعتبار .